تخطى إلى المحتوى

الراحة في الجنة



إلى كل من ينشد السعادة وراحة البال .. وكل من ينشد الراحة من العناء والتعب والنصب … وكل من ينشد السلامة من الضيق والعنت لا تحلم به في هذه الدنيا إلا أن يشاء الله …
فالراحة الحقيقية والسعادة الحقيقية في الجنة نعم في الجنة … أذكر أني كنت ذات مرة أتحدث مع أحد أقربائي وسألته عن ابنه ولماذا تأخر في الزواج … فقال لي : إنه يريد فتاة طولها كذا ، وعرضها كذا ، ولونها كذا ولها من الصفات كيت وكيت ، وأنه لن يتنازل عن أي صفة من هذه الصفات ولا بد أن تكون كل هذه الصفات في فتاة واحدة ، فقلت له : سلِّم عليه وأخبره أنه لن يجد هذه المواصفات إلا في الجنة ، أما في الدنيا فلن تجتمع هذه المواصفات التي يطالب بها في فتاة واحدة طال الزمن ، أم قصر …
ومضت الأيام ولا زال صاحبنا ينتظر ويبحث عن فتاة كاملة لا عيب فيها … كان الله في عونه .
وهذا إشكال كبير فمن الناس من يطلب فتاة لا وجود لها في هذه الحياة إلا في ذهنه أما في الواقع فهيهات هيهات .
ومن الناس من يريد أن يصل إلى أعلى المراتب دون تعب ولا نصب ولم يعلم أنه لولا المشقة لكان الناس كلهم في الدرجات العليا والوظائف المتقدمة ..
لولا المشقة ساد الناس كلهم … الجود يفقر والإقدام قتال
قلت لأحد أبنائي في أيام الامتحانات شد حيلك كلها أسبوع ونصف وينتهي التعب …. فقال : أسبوع في هذا الفصل ، وأسبوع في الفصل الثاني وأسبوع في السنة القادمة وأسبوع وأسبوع …
فقلت له يا بني هكذا حال الدنيا . ومن كانت بدايته محرقة كانت نهاية مشرقة وإياك ثم إياك أن تحسب أن الدنيا خالية من العناء والكبد ألم يقل الله " لقد خلقنا الإنسان في كبد ".
لا تحسبِ المجدَ تمرًا أنت آكله.. … ..لن تبلغ المجدَ حتى تلعق الصَّبِرا
فهز رأسه وتمتم بشفتيه وكأنه يقول : " والله حاله ".
وهذا بكل أسف حال الكثير من الناس فهو يريد الدنيا صافية من الأكدار والأسقام والأوجاع وكأنه لم يسمع بقول الناظم :
جبلت على كدر وأنت تريدها … صفواً من الأقذار والأكدار
ومكلف الأيام ضد طباعها … متطلب في الماء جذوة نار
وإذا رجوت المستحيل فإنما … تبني الرجاء على شفير هار
فاقضوا مآربكم عجالاً إنما … أعماركم سفر من الأسفار
وتراكضوا خيل الشباب وبادروا … أن تسترد فإنهن عوار
قال صاحب الخطب المنبرية: " هكذا هِيَ الدنيا، وهكذا العيشُ فيها، ليس فيها راحةٌ أبديَّةٌ، ولا سعادةٌ حقيقيَّةٌ، إنما الراحةُ والنعيمُ المقيمُ، والسعادةُ والفوزُ العظيمُ، لمن رَحِمَهُ اللهُ فَزَحْزَحَهُ عَنِ الجحيم، { فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ } سُئِلَ الإمامُ أحمدُ رَحِمَهُ اللهُ: متى الراحةُ يا أبا عَبدِ اللهِ؟ فقال:" عِندَما نضعُ أوَّلَ رِجْلٍ في الجنةِ ".
وصدق رحمه الله ، فالراحة التامة في الجنة ، والنعمة الكاملة في الجنة ، والسعادة التي لا نكد فيها في الجنة .
قال تعالى : { اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد، كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور } .
وقال تعالى : (( وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً , الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً )).
قال الشيخ عايض القرني ـ حفظه الله ـ : " الحقيقةُ التي لا ريبَ فيها أنكَ لا تستطيعُ أنْ تنزعَ من حياتِكَ كلِّ آثارِ الحزنِ ، لأنَّ الحياة َخُلقتْ هكذا ? لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ ? ، ? إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ ? ، ? لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ? ، ولكنَّ المقصودَ أن تخفّفُ من حزنِك وهمِّك وغمِّك ، أما قَطْعُ الحُزْنِ بالكليَّةِ فهذا في جناتِ النعيمِ ؛ ولذلك يقولُ المنعمون في الجنة : ? الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ? . وهذا دليلٌ على أنهُ لم يذهبْ عنهُ إلا هناكَ ، كما أنَّ كلَّ الغِلِّ لا يذهبُ إلا في الجنةِ ، ? وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ ? ، فمنْ عَرَفَ حالةَ الدنيا وصفتها ، عَذَرَها على صدودِها وجفائِها وغَدْرِها ، وعَلِمَ أن هذا طبعُها وخلُقُها ووصفُها .
حلفتْ لنا أنْ لا تخون عهودَنا ….. فكأَّنها حَلَفَتْ لنا أنْ لا تَفِي
فإذا كان الحالُ ما وصفْنا ، والأمرُ ما ذكرنا ، فحرِيٌّ بالأريبِ النابِهِ أنْ لا يُعينَها على نفسِه ، بالاستسلامِ للكدرِ والهمِّ والغمِّ والحزنِ ، بل يدافعُ هذه المنغصاتِ بكلِّ ما أوتيَ من قوةٍ ، ?وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ? ، ? فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ ? " .

وما أجمل ما قاله الشيخ علي القرني ـ وفقه الله ـ حيث قال : " لو استخبر المنصف العقل والنقل لأخبراه أن الدنيا دار مصائب وشرور، ليس فيها لذة على الحقيقة إلا وهي مشوبة بكَدَر؛ فما يُظن في الدنيا أنه شراب فهو سراب، وعمارتها -وإن حسنت صورتها- خراب، والعجب كل العجب مِمَّن يدُه في سلة الأفاعي كيف ينكر اللدغ واللسع؟!
وأعجب منه من يطلب ممن طُبع على الضر النفع.
طُبعت على كدر وأنت تريدها صفواً من الأقذار والأكدار
إنها على ذا وضعت، لا تخلو من بلية ولا تصفو من محنة ورزية، لا ينتظر الصحيح فيها إلا السقم، والكبير إلا الهرم، والموجود إلا العدم، على ذا مضى الناس؛ اجتماعٌ وفرقة، وميتٌ ومولود، وبِشْرٌ وأحزان:
والمرء رهن مصائب ما تنقضي حتى يوسد جسمه في رَمسِه
فمؤجل يلقى الردى في غيره ومعجل يلقى الردى في نفسه
هل رأيتم، بل هل سمعتم بإنسان على وجه هذه الأرض لم يُصَبْ بمصيبة دقَّت أو جلَّت حتى في قطع شسع نعله؟ الجواب معلوم: لا. وألف لا، ولولا مصائب الدنيا مع الاحتساب لوردنا القيامة مفاليس، كما ورد عن أحد السلف :
ثمانية لابد منها على الفتى ولابد أن تجري عليه الثمانيه
سرور وهمٌّ واجتماع وفرقة ويُسْر وعسر ثم سقم وعافية "

نعم هذه الدنيا … ولهذا كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء عن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أنه قال: (( : لم يكن رسول الله صلى الله عليه و سلم يدع هؤلاء الدعوات حين يصبح وحين يمسي اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي )) رواه أحمد في مسنده ، وصححه الأرنؤوط .

سبحان الله و الحمد لله

الوسوم:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.